وليم نصار | لموسيقاك أول الغيث

بقلم: نضال القادري

وليم نصار
لموسيقاك أول الغيث

نضال القادري

يقول المفكر المشرقي جبران خليل جبران: "الموسيقى كالشعر والتصوير تمثل حالات الانسان المختلفة وترسم أشباح أطوار القلب وتوضح أخيلة ميول النفس وتصوغ ما يجول في الخاطر.". نعم، ففي كل إشارة وعند كل نوتة، ولكل عنوان حالة تمثيلية تعبر عن شعور سام وعواطف متأثرة وتأملات روحية ترفع النفس إلى عالم الأثير الدقيق حيث تصفو مما بها من الشوائب.

التجلى شعور راق بل هو وحي روحي هابط من الأعلى، ولكنه ليس حكرا على طائفة من أنبياء السماء. نحن المشرقيون نخترق ستار التجلي في إبداعنا. لا يسعني إلا أن أعبر عن امتناني للفنان الموسيقار د. وليم نصار، الذي أصدر ألبومه (أطفال قانا /الجليل) ووقعة خلال المعرض الخامس عشر للكتاب الذي أقامه النادي السوري الكندي في مدينة أوتاوا الكندية، فهو برأيي من الذين اخترقوا مكنونا. في عناوين موسيقاه كما في المضمون، يشعرك بموسيقاه أنه يحاكي هذا التجلي، يتجلى على هيئة شهوات متأتية من حالة طبيعية لمخزونه الثقافي، أوجدها لنفسه المناضلة المتأتية من سبيل إزاحة الظلم والإحتلال والإستعمار اليهودي عن أرض بلاده. وفضلا عما تقدم، إن ألبومه الموسقي (أطفال قانا/الجليل) المملوء شعورا راقيا، يريدك المؤلف أن تعرف به في الحياة حبا يتعدى حد الشهوات إلى التأثير على مجرى الحياة نفسها، كأنك تخاله يحاكي غناء روحيا وغنى يخرج بالأنفس من دائرة الملذات إلى منفسح المنعشات الروحية .

في إحدى مقارناتي الموسيقية المتواضعة، لاحظت التماسا فادحا بين جيلين يتقاطعان، همهما لم يتغير ولم ينزاح، ارتبطا بفلسطين ولم ينفك كل منها عن مجاراتها بالحياة الحرة الجميلة، ذلك زادني إيمانا بقدرة الموسيقى الناعمة والثائرة التي لا تشعل حروبا عبثية، بل ترتقي بالأنفس نحو سموها الأعلى وتكون قادرة على صنع النصر، فكان أن حدث وارتفعت الأسماء برتقالا في سماء حيفا، والقدس، وبيت لحم، وبلا شك، في لبنان والشام، فكان وليم نصار سفيرا متكاملا لمدن الملح الواحدة، ليكتب اسمه مع أخرين كالثلاثي جبران، سيمون شاهين، سميح شقير، مارسيل خليفة. البلاد واسعة، تطول اللائحة أكثر بكثير، ولكن لا تصمد الموسيقى كثيرا، فليست كل الموسيقى موسيقى، بعضها يوقفك قليلا عن التنفس لتقول شكرا، أيها الإبداع.

لوليم نصار أول الغيث، سمعته ولم أتمالك ما بقي من سحر، (أطفال قانا / قانا الجليل)، إنتاج موسيقي لا يعرف المهادنة، ثائر في نبضه، توزعت مقطوعاته الموسيقية الجميلة على 13 فاصلا: الزعتر الأخضر، وداعا يا أبي، نبيذ قانا، نشيد الحب، الولد والجمل الأحمر، حضن ستي، نهر البارد، المسيح الكنعاني، أطفال قانا، إيل، مقاومة، إم سعد، إلى مريم.

ما كان ليشدني إلى الكتابة عن هذا الإنتاج الموسيقي المبدع، ولو لم يكن كذلك حقا هو وليم نصار، ولا كان أخذني إلى سماعه ذلك التأني والهدوء. إذا، هو الغرق والدوار الذي تسحبك إليه المخيلة، فالألبوم هو إنجاز أكثر من رائع لوليم نصار، لا أدري إن كان عن قصد وتصميم قد وقع/أوقع الإختيار على هذا النوع من الموسيقى الساحرة والثائرة أو أنه وليد صدفة. شخصيا، أرجح أمر القصد، فالموسيقي نصار هو من رعيل النضال في صفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وينتمي إلى جيل سوري لا يقدس الصدفة بل يعمل لها باستدامة، بجد ونشاط. فعلا هي نهضة الحياة.

لم أستغرب عندما رافقناه يرفع الصوت عاليا في الذكرى ألـ 60 لإغتصاب فلسطين وإقامة الكيان الإستيطاني، فالموسيقار د. وليم نصار رفض استلام جائزة مهرجان الموسيقى الإتنية في مقاطعة كيبيك/كندان وقيمتها ستون ألف دولار أميركي، إذ كان من المتوجب عليه مصافحة موسيقية صهيونية معروفة بعدائها الشديد لحقوق الشعب الفلسطيني تدعى (هيلاينا آنجل)، وقال الموسيقار مخاطبا لجنة المهرجان:" فلتقطع يدي ألف مرة قبل أن أصافح ممثلة دولة تحتل بلادنا وتقتل أطفالنا". وأضاف: "لا يشرفني أخذ جائزة على حساب محو ذاكرتنا ودمائنا". وأعتقد أنك أصبت ألف مرة.


لا لن أعجب بعد الأن لسماعه، فلوليم نصار أول الغيث، تتساقط موسيقاه الحالمة في ثورتها، تتعمشق على سرب حمام، تجوب بك في مدارات الأمة المعذبة، العطشى إلى الحرية المطلقة. حقا، مداراته سائبة وعند حافة كل سطر منها، أو شطر يختار الإبداع لنفسه وترا، لا يعزف فقط، لا بل يكتب نهاية ما تدع حدا فاصلا للفاصلة، هي كالحياة تتدفق في ألقها المتأني، تبحث عن وطن لم يتعذب، وفي عذابه لم يترمد، ولا تدري أي فينيق ستنفض عن جناحيها هذي الفصول اللامتناهية هو المجتمع معرفة والمعرفة قوة، كما قال المفكر أنطون سعادة، والموسيقي د. وليم نصار يعرف مذاق كراته الأرضية، السماوية في التجلي كالمسيح السوري/الكنعاني، تسبح في التنوع الثائر نحو الحياة، حتى لا يخفى عليك أن الحياة وقفة عز عند أول قافية. لقد كان ألبومه الموسيقي يعكس صورة عن حياة مجتمع مشرقي كامل، وبقليل من التواضع، أعرف أنه كان محطة، ولن تكون الاخيرة للموسيقي وليم نصار . ولكن، القمة لا تنتهي!! موسيقاه كالشعر في وحيها تنسال من عذابات عشاقها أو ترسمك في وجه الإله الذي أخذوه منك عنوة في بداية الحلم، فلذا سميت بالثائر، وأنت لست القادر على فك ألغازها، وقت لا تنفع البندقية، أو حينما لا تنفع أن تكون وحدها أداه صيد لاحلام الوطن الثمينة.

أعتقد أن الموسيقى التي تجلت في ألبومه (أطفال قانا/الجليل) عندما تبدأ بالعزف نحو عريك، لا يعرف الله مداها أكثر منك، ويتساوى الوحي بين المتلقي وصاحب الدعوة، والنبوءة تأخذك إلى حيث يريد اللحن، ويبدأ الإبداع من هناك، وتبدأ أنت من دفاترك، المتشوقة للنصر، عدا ونقدا لتسجيل أول انتصاراتك الفاصلة

في شتاء لا يعرفه إلا الأنقياء، هو الوطن أول الغيث، والموسيقى ترتيلة يندس كل منا في نوتاتها. يتسارق الساسة نبض حروفها، والشعراء بعض الأبجدية، وقد أهملوا لوليم نصار، سهوا، صفحة من البياض تتقافز الموسيقى لتكتب عليها مدائح لعناوين شكلت انتصارا في التاريخ لمفاهيم الحق والخير والجمال، وحياة أحلى من كل شيء أخر. وبخفة العارف العاقل يدعوك وليم نصار، بتفاؤل ألا تقرأ ما كتبوا من شقوق الهزيمة

دائما إلى الأمام، وشكرا لك د. وليم نصار، على إصدارك الموسيقي الذي يليق بمكتبة الوطن، وبذاكرة الأنقياء، واثقون نحن من إبداعك، ومن نجاحك، في وقت صارت رايات الشر والطغيان أكثر ارتفاعا، والقبح أعمى، ورائحة الخيانة
العظمى تفوح من "شرم الشيخ" إلى "سعسع"، وفوق هوامش الخيانة العظمى، رأيت في إصدارك صورة حية متكاملة بالحياة لكل فلسطين من البحر إلى النهر، متلمعة تحضر للعيد، أليست هي بداية البدايات ووجع النهايات، الذي لا ينتهي حتى ينتصر فينا فن الحياة؟!!

وليم، ألف شكرا، هلا دلني فيك على وطني كي أعرف أنه بالحبر، بالموسيقى، وبالبندقية التي لا تكفى وحدها، ينكسر الموت ويحلو الإنتصار

روابط المقال
القدس العربي | جريدة النهضة